فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه، فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح ب {يا أيها الذين آمنوا} لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيرًا ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كما قال طَرَفة:
وظُلْم ذوي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ** على المَرْءِ من وَقْع الحُسَاممِ المُهَنَّدِ

كان تغييرها إلى حال العَدل فيها من أهم مقاصد الإسلام كما بيَّنا تفصيله فيما تقدم في آية: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178]. أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} هذه آية الوصية، وليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي النساء: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء: 11] وفي المائدة: {حِينَ الوصية} [المائدة: 106].
والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث؛ على ما يأتي بيانه. وفي الكلام تقدير واو العطف؛ أي وكتب عليكم، فلِما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله في بعض الأقوال: {لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى} [الليل: 15] أي والذي؛ فحذف. وقيل: لمّا ذكر أن لوَليِّ الدم أن يقتصّ؛ فهذا الذي أشرف على أن يقتصّ منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية؛ فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. اهـ.
سؤال: لم لم يصدر هذا الحكم ب {يا أيها الذين آمنوا}؟
ولم يصدره بيا أيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقًا بالأموات، أو لأنه لما لم يكن شاقًا لم يصدره كما صدر الشاق تنشيطًا لفعله. اهـ.
سؤال: لم قدم المفعول في قوله تعالى: {أحدكم}؟
الجواب: تقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفعل عند النفس وقت وروده عليها. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} يقتضي الوجوب على ما بيناه، أما قوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} فليس المراد منه معاينة الموت، لأن في ذلك الوقت يكون عاجزًا عن الإيصاء ثم ذكروا في تفسيره وجهين الأول: وهو اختيار الأكثرين أن المراد حضور أمارة الموت، وهو المرض المخوف وذلك ظاهر في اللغة، يقال فيمن يخاف عليه الموت: إنه قد حضره الموت كما يقال لمن قارب البلد إنه قد وصل والثاني: قول الأصم أن المراد فرض عليكم الوصية في حالة الصحة بأن تقولوا: إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا قال القاضي: والقول الأول أولى لوجهين أحدهما: أن الموصي وإن لم يذكر في وصيته الموت جاز والثاني: أن ما ذكرناه هو الظاهر، وإذا أمكن ذلك لم يجز حمل الكلام على غيره.
أما قوله: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} فلا خلاف أنه المال هاهنا والخير يراد به المال في كثير من القرآن كقوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272] {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير} [العاديات: 8] {مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وإذا عرفت هذا فنقول: هاهنا قولان: أحدهما: أنه لا فرق بين القليل والكثير، وهو قول الزهري، فالوصية واجبة في الكل، واحتج عليه بوجهين: {الاول} أن الله تعالى أوجب الوصية فيما إذا ترك خيرًا، والمال القليل خير، يدل عليه القرآن والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 8] وأيضًا قوله تعالى: {لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] وأما المعقول فهو أن الخير ما ينتفع به، والمال القليل كذلك فيكون خيرًا.
الحجة الثانية: أن الله تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر، بدليل قوله تعالى: {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء: 7] فوجب أن يكون الأمر كذلك في الوصية.
والقول الثاني: وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير، واحتجوا عليه بوجوه الأول: أن من ترك درهمًا لا يقال: إنه ترك خيرًا، كما يقال: فلان ذو مال، فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة، وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير، وكذلك إذا قيل: فلان في نعمة، وفي رفاهية من العيش.
فإنما يراد به تكثير النعمة، وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله، وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه، كما قد روي من قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد».
وقوله: «ليس بمؤمن من بات شبعانًا وجاره جائع» ونحو هذا.
الحجة الثالثة: لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك، سواء كان قليلًا، أو كثيرًا، لما كان التقييد بقوله: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} كلامًا مفيدًا، لأن كل أحد لابد وأن يترك شيئًا ما، قليلًا كان أو كثيرًا، أما الذي يموت عريانًا ولا يبقى معه كسرة خبز، ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته، فذاك في غاية الندرة، فإذا ثبت أن المراد هاهنا من الخير المال الكثير، فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا فيه قولان:
القول الأول: أنه مقدر بمقدار معين، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولى لهم في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال أولا أوصي، قال: لا إنما قال الله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وليس لك كثير مال، وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال لها: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال أربعة قالت: قال الله: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل، وعن ابن عباس إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصي وعن قتادة ألف درهم، وعن النخعي من ألف وخمسمائة درهم.
والقول الثاني: أنه غير مقدر بمقدار معين.
بل يختلف ذلك باختلاف حال الرجال، لأن بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني، وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغنى لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة، ولا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقًا بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد، فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها. اهـ.
لم جاز تذكير الفعل في قوله تعالى: {كتِبَ عَلَيْكُمْ} {الوصِيَّة}.
الجواب: جاز تذكير الفعل لوجهين:
أحدها: كونُ القائمِ مقامَ الفاعل مؤنَّثًا مجازيًا.
والثاني: الفصل بيْنه وبيْن مَرْفُوعه.
والثاني: أنَّهُ الإيصاءُ المدلُول عليه بقوله: {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} أي: كُتِبَ هو أي: الإيصاءُ، وكذلك ذكرُ الضَّمير في قوله: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] وأيضًا: أنَّه ذكر الفِعلْ، وفصل بيْن الفِعل والوصيَّة؛ لأَنَّ الكلام، لمَّا طال، كان الفَاصِلُ بين المؤنَّث والفعْل، كالمعوَّض من تاءِ التَّأنيث، والعَرَبُ تَقُولُ: حَضَرَ القاضِيَ امرأَةٌ فيذكرون؛ لأنَّ القَاضِي فصَل بيْن الفعل وبيْن المرأة.
والثَّالِثُ: أنه الجارُّ والمجرُور، وهذا يتَّجِه على رأي الأخفش، والكوفيين، و{عَلَيْكُم} في محلِّ رفع على هذا القول، وفي محلِّ نَصبٍ على القولَين الأَوَّلين. اهـ.
سؤال: ما معنى حضور الموت في الآية؟
الجواب: معنى حضور الموت حضورُ أسبابه وعلاماتِه الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتًا قال تأبط شرًا:
والمَوْت خَزْيَانُ يَنْظُرُ

فإن حضور الشيء حلوله ونزوله وهو ضد الغيبة، فليس إطلاق حضر هنا من قبيل إطلاق الفعل على مقاربة الفعل نحو قد قامت الصلاة ولا على معنى إرادة الفعل كما في {إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6]، {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [المائدة: 98]، ولكنه إسناد مجازي إلى الموت لأنه حضور أسبابه، وأما الحضور فمستعار للعرو والظهور، ثم إن إطلاق الموت على أسبابه شائع قال رُويشد بن كثير الطائي:
وقُلْ لَهُمْ بادروا بالعَفْو والتَمِسُوا ** قَوْلًا يُبَرِّؤُكُم إنِّي أَنا المَوْت

والخير المالُ وقيل الكثير منه. اهـ.

.قال الخازن:

{إن ترك خيرًا} يعني مالًا قيل يطلق على القليل والكثير وهو قول الزهري: فتجب الوصية في الكل وقيل: إن لفظة الخير لا تطلق إلاّ على المال الكثير وهو قول الأكثرين واختلفوا في مقدار الكثير الذي تقع فيه الوصية فقيل: ألف درهم فما زاد عليها. وقيل: سبعمائة فما فوقها. وقيل: ستون دينارًا فما فوقها.
وقيل: إنه من خمسمائة إلى ألف وقيل: إنه المال الكثير الفاضل عن العيال، روي أن رجلًا قال لعائشة: إني أريد أن أوصي فقالت كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف درهم قالت: كم عيالك؟ قال أربعة. قالت إنما قال الله: {إن ترك خيرًا} وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك.
{الوصية} أي الإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به وقيل: هي القول المبين لما يستأنف من العمل والقيام به بعد الموت {للوالدين والأقربين} كانت الوصية في ابتداء الإسلام فريضة للوالدين والأقربين على من مات وله مال. وسبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يوصون للأبعدين طلبًا للفخر والشرف والرياء ويتركون الأقربين فقراء فأوجب الله تعالى الوصية للأقربين، ثم نسخت هذه الآية بأية المواريث، وبما روي عن عمر بن خارجة قال: كنت آخذًا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعته يقول: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» أخرجه النسائي والترمذي، نحوه وذهب ابن عباس إلى أن وجوبها صار منسوخًا في حق من يرث، وبقي وجوبها في حق من لا يرث من الوالدين والأقربين.
وهو قول الحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار وحجة هؤلاء أن الآية دالة على وجوب الوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ ذلك الوجوب في حق من يرث بآية الميراث وبالحديث، المذكور فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يرث فعلى قول هؤلاء النسخ يتناول بعض أحكام الآية، وذهب الأكثرون من المفسرين والعلماء وفقهاء الحجاز والعراق إلى أن وجوبها صار منسوخًا في حق الكافة وهي مستحبة في حق من لا يرث ويدل على استحباب الوصية والحث عليها ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه» وفي رواية: «له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين» وفي رواية: «ثلاث ليال إلاّ ووصيته مكتوبة عنده» قال نافع سمعت عبدالله بن عمر يقول: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلاّ ووصيتي مكتوبة عندي أخرجه الجماعة.
قوله: «ما حق امرئ» الحق يشتمل معناه على الوجوب والندب والحث، فيحمل هنا على الحث في الوصية لأن لا يدري متى يأتيه الموت فربما أتاه بغتة فيمنعه عن الوصية. وقوله تعالى: {بالمعروف} أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط فلا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير. اهـ.
سؤال: لم عبر بفعل ترك وهو ماض عن معنى المستقبل؟
الجواب: وعُبر بفعل ترك وهو ماض عن معنى المستقبل أي إن يترك، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضيًا، والمعنى: إن أَوحشَك أن يَتْرُك خيرًا أو شارف أن يترك خيرًا، كما قدّروه في قوله تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم} [النساء: 9] في سورة النساء وقوله تعالى: {إن الذين حقت عليههم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96] في سورة يونس أي حتى يقاربوا رؤية العذاب. اهـ.
سؤال: ما معنى {أل} في كلمة {الوصية}؟
الجواب: التعريف في الوصية تعريفُ الجنس أي كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين. اهـ.
سؤال: ما وجه الرفع في قوله: {الوصية}؟
الجواب: قوله: {الوَصِيّة} فيه ثلاثةُ أوجُهٍ:
أحدها: أن يكُونَ مبتدأً، وخبره {لِلْوَالِدَيْنِ}.
والثاني: أنَّهُ مفعول {كُتِبَ}، وقد تقدَّم.
والثالث: أنَّهُ مبتدأٌ، خبره محذوف، أي: فعلَيْهِ الوصيَّةُ، وهذا عند مَنْ يجيزُ حذف فاء الجَوابِ، وهو الأخفشُ؛ وهو محجوجٌ بنقل سيبَوَيْهِ. اهـ.
و{المعروف} الفعل الذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس فهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفًا لأنه لكثرة تداوله والتأنُّس به صار معروفًا بين الناس، وضِدّه يسمى المنكر والمراد بالمعروف هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصي في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة، فإنه إن توخي ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للإضرار بوارث أو زوج أو قريب.
وقد شمل قوله: {بالمعروف} تقدير ما يوصي به وتمييز من يوصي له ووكل ذلك إلى نظر الموصي فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله تعالى: {على المتقين}. اهـ.